ومن آداب الصيد تهادي لحمه وبذله للطاعمين وجمع الصحاب والأتراب على قديره أو شوائه .. وقد كان الصائدين يفخرون بذلك .. فأمرؤ القيس وأبو النجم العجلى والشمردل اليربوعي ذكروا هذا المعنى في شعرهم وأفتخروا به .
وكان " الأشراف يتهادون القطعة اليسيرة من لحم الصيد لا قيمة لها" ويجدون في ذلك متع ومسرة ..
ومن آداب الصيد ، أن تختار له الأيام القائمة التي لا مطر فيها وذلك أن الطرائد ، أفره ما تكون في يوم الغيم … وأن الطرائد أشغل ما تكون في هذا اليوم بطلب المرعى والمداومة عليه .. وفي اشتغال الطريدة فرصة للصياد والضواري.
وقد كانت الملوك تقسم أيامها .. فتجعل يوم الغيم للصيد ومن آداب الصيد التي جاء بها الإسلام وأخذ المسلمون أنفسهم بها .. عدم تعذيب الطريدة والإحسان إليها ..
ومن آداب الصيد أيضاً أن يتناول القانص قبل ركوبه إلى الصيد ما يصلح له من طعام خفيف وشراب مباح .. وألا يملأ معدته ليكون أخف حركة وأقدر على الصيد وانشط له ..
ثانياً: الصيد في عصر بني أُمّية
رأينا من قبل مبلغ حاجة العرب في جاهليتهم للصيد وحبهم له.. وعندما أكرمهم الله بالإسلام ، امتلأت حياتهم بأروع المعاني وأرفع المثل وأصبحوا أصحاب قضية وحملة رسالة، وإذا بالذي كان يصيد للمتعة وملء الفراغ يجد أن كل لحظة من لحظات حياته قد امتلأت بالأعمال الجليلة والغايات النبيلة، والأهداف السامية ..
وفي عصر بني أمية، غدا المسلمون في بسطة من العيش، وسعة في الأرض وسطوة في الملك، ومن أشهر ولاة بني أمية حبا في القنص وتربية الجوارح يزيد بن معاوية ..
يقول ( أبا الحسن بن على المسعودي ) : كان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وفهود، وكان مولعا ً بالصيد ، مبتدعاً فبه، فهو أول من حمل الفهود على ظهور الخيل ولا غرو فالناس في زمن بني أمية مازالو قريبي العهد بالبادية ، والصيد والطرد من أجمل ما في حياة البادية .
على أن الصائدون في زمن بني أمية لم يكونوا جميعهم ممن يتخذون الصيد وسيلة للهو والتمتع ، وإنما كان هناك صائدون يصطنعون الصيد زهاده بما عند الناس وكفا لأنفسهم عما في أيدي الآخرين .
ذلك بأن الصيد يؤثره رجلان متباينان في الحال .. ملك ذو ثروة أو زاهد ذو قناعة، فالملك يؤثره لحب الغلبة والظفر والابتهاج بظاهر العدة والعتاد .
والزاهد يؤثره لكف نفسه عن ذيّ المكاسب والنأي بها عن مصرع المكالب، وصون ماء وجهه من غضاضة الامتهان.
ويقول صاحب الجمهرة في علوم البيزرة يروي لنا خبر رحلة من رحلات الصيد ويصور لنا فيها شغف الناس بهذه الرياضة وإقبالهم عليها فيقول .. وهو يصف رحلة أشترك فيها هشام بن عبد الملك .. أنه خرج يوماً للقنص فلما توسط مكان الصيد، أختلط الناس بعضهم ببعض، وأنكر في حومة الصيد أخاه والوالد ولده، والخادم سيده، وجعل الناس يصيدون من كل جانب كل بما معه من آلة الصيد، فمنهم من يرمى بالنبل، ومنهم من يتصيد بالجوارح ومنهم من يتصيد بالفهود ومنهم من يتتبع المتصيدين طلباً للفرجة ، ثم قال. وهشام قائم على ناشز من الأرض ينظر إلى من يتصيد إذن كان هشام صياداً وكان يشهد رحلات الصيد الكبيرة .
وكان يشارك عمامة الصائدون مرحهم ونشوتهم، يحبس أنفاسه في المواقف المثيرة، وتأخذ به حب الهواية والتمتع بها فيجري وراء الطريدة بل أن هشام ذهب إلى أبعد من هذا فرسم في قصره للصيد رسماً خاصاً به وجعل له في أعماله وعماله نصيباً، واختار للمنصب الجديد " حاذقا" من الملمين بهذا الفن وإماماً من أئمته، فأسلم إليه ضواريه ليؤدبها إذا جهلت ويطيبها إذا مرضت ويروضها على الصيد كلما آنس بها حاجة إلى الرياضة .
ذلكم هو الغطريف بن قدامه الغساني وكان يسمى صاحب صيد هشام بن عبدالملك ..
وهنا نرى أنه أصبح للضواري مسئول في الدولة ومنصبه مثل المسؤول عن الشرطة والمالية وهكذا ..
وجاء في "كتاب الطيور" … وكان من الطبيعي ألا يقتصر اقتناء الجوارح والضواري والصيد بها على الخلفاء وحدهم وإنما شاركهم فيها جميع الناس بمختلف طبقاتهم.
وهنا يتضح لنا أن اقتناء الجوارح والضواري والاستمتاع بالصيد بها والسخاء في الإنفاق عليها ، واتخاذ الوسائل العلمية في تضريتها على الصيد والسهر على صحتها غدت مظهراً من مظاهر الحياة في عصر بني أمية وأن المتأخرين من خلفاء هذه الأسرة جعلوا للصيد وضواريه شأناً في أعمال الدولة .
ثالثاً: الصيد في عصر بني العبّاس
ولما دالت دولة بني أمية آل إلى دولة بني العباس كانت الراية الإسلامية ترفرف على أكثر أصقاع المعمورة ثروة وأوفرها غنى، وكان خراج هذه الأرض العريضة يجبى من هنا وهناك، ثم ينصب كله أو جله في خزائن بني العباس، وكانت الدنيا تقبل على الناس ضاحكة مبشرة، وكانت هواية الصيد في مقدمة الرياضات التي أقبلوا عليها ، ومما زاد في هذا الإقبال تأثر الدولة العباسية بالتراث الفارسي، فقد كانت هذه الرياضة عند الفرس تحظى باهتمام عظيم، وكان لهم شأن في تربية الجوارح وتضريتها وإتقان فنون الصيد وأحكام صناعة آلاته، فلما صار لهم في المجتمع الجديد شأن في التوجيه والريادة نقلوا إليه كل ما هو لديهم في هذا المجال.
وكانت ولاية السفاح شأن المسلمين إحدى الأسباب في تعلق الناس بهذه الهواية .. فأبو العباس قبل أن يلي الخلافة قضى كثيراً من وقته في الصيد، فقد صاد وهو غلام صغير وصاد وهو شاب يافع ثم صاد بعد ذلك وهو خليفة مكتهل وكان شديد الولع بالضواري شديد اللهج بالصيد وكان إذا تخلفت ضواريه ولم تصد الصيد الذي يليق بها وبه شكا من ذلك وخجل، وجعل يخرج للصيد منفرداً عن عسكره ليس معه إلا عدد من أصدقائه وخاصته من أمثاله خالد بن صفوان ..
وقد أكثر السفاح من رحلات الصيد الكبيرة التي تجمع عدداً من أهل بيته وفيهم أعمامه وأخوه المنصور، وعدد من رجال دولته، وكان يمضي في ذلك أياماً حافلة بالتمتع بحب هذه الرياضة .
ولما آلت الخلافة إلى المنصور لم يهتم كثيراً بالصيد مثل اهتمام أخيه السفاح، ولعل سبب ذلك كثرة مشاكل الدولة واختلاف الشخصية بين الرجلين، ولكن المنصور على الرغم ذلك لم يستطع أن يبعد أصدقاءه والمقربين منه والناس عامة عن حب هذه الرياضة ولا كفهم عنها، فمنهم قد ورثوا هذا الحب عن بني أمية وعن أخيه السفاح وأرسوا قواعد القنص وآدابه ..
وهذا هو واحد من أصدقائه وشاعر من شعرائه يتعلق بالصيد تعلق المحب بمحبوبته، ويبوح بذلك أمام الخليفة دون أن يتحرج ..
ويقول صاحب الجمهرة في علوم البيزرة : أن أبا جعفر المنصور قال لأبي دُلامة: كيف حبك للصيد؟ فقال كحب المسجون للخلاص من القيد، فقال: وأي الأشياء أحب إليك من الضواري ؟ فقال : أحب الصقر الطويل النفس الأسود الجنس إذا صاد أشبع، وإذا أمات أوجع ، يصيد الكبير ويعفى على الصغير، وثمنه يا أمير المؤمنين حقير، فقال: ولم لا تحب البازي وهو خير منه وألذ وأحسن إصابة وأسرع .. فقال : يا أمير المؤمنين البازي ملك .. ولا أقدر أن أتشبه بالملوك وإنما يحمل الملوك .. الملوك .. فقال فالشاهين .. فقال : إنه يا أمير المؤمنين .. كبير القدر .. كثير الغدر، قال فالباشق .. قال ملعوب الصبيان .. وقد فاتني ذلك الزمان قال فاليائي .. قال … ملعوب الخدم وأولاد الحشم ولا أحب يا أمير المؤمنين أن أشتم ..
فقال: ما تصنع بلحم الصيد وعندك ما هو أطيب منه فقال: صدقت يا أمير المؤمنين، غير إني أجد فيه لذة الطرب وهو الذي أتعبت فيه جوادي وأجهدت فيه مرادي ..
ومن أخبار رحلات المهدي ما رواه كشاجم من أن المهدي كان في رحلة صيد ومعه علي بن سليمان وأبو دُلامة فأسير أمامهم ظبي فرماه المهدي فأنفذه .. ورمي علي بن سليمان فأصاب كلباً من كلاب الصيد فقتله .. فقال أبو دُلامة الشاعر ..
قـد رمـى المهــدي ظبيــاً … . شــــك بالسهـــم فــؤاده
وعلــي بـــن سليـــما …. ن رمى كلبـــاً فصـــــاده
فهنيئـــاً لهــــمـــا …. كـــل امــرئ يـأكــل زاده
وقد عرف ملوك البلاد المجاورة ولع المهدي بالضواري وشدة شغفه بالصيد حتى أن "ميخائل بن ليون.. عظيم الروم لما وقف على ذلك أهدى إليه كتاباً في فن البيزرة كان لأوائل الروم .
ثم كان الرشيد … متعلقاً بحب هذه الرياضة، فقد روى صاحب البيزرة أن الرشيد كان ذا حظ في الصيد ، وانه كان يرتاح له ارتياحاً شديداً … حتى تحمله الأريحية على ركض فرسه والشد به في أثر الطريدة وكان إذا نمى إليه خبر متفنن في الصيد استقدمه إليه وأصطفاه لنفسه وكان للرشيد رحلات صيد رائعة يقوم بها ومعه عدد من أصدقائه ورجال دولته وبعض شعرائه من أمثال أبو نواس، وكان الخليفة يساير أصدقاءه ومن معه في التمتع بالصيد وفنونه، وكما عرف عن المهدي في الآفاق حبه للصيد وأدواته فقد عرف مثل ذلك عن الرشيد فأغتنم " نقفور" ملك الروم إحدى المناسبات الطيبة وأهدى الرشيد أثنى عشر بازياً وأربعة أكلب من كلاب الصيد ليتقرب إليه بها .
ولكن أشد خلفاء بني العباس ولعاً بالفروسية والصيد هو المعتصم فقد كان أكثر خلفاء بني العباس محالفة للصيد، وأخفهم فيه ركاباً، لتوفر همته على الفروسية وما شاكلها ، وكانت له رحلات صيد يمضي فيها الأيام الطوال، فينشط لذلك جسمه ، وتنبسط نفسه، ويزداد إقباله على الطعام ..
بل أنه اختار الأرض التي بنى عليها " سامرا " في رحلة صيد لما وجده في مكانها من طيب المناخ، واعتدال الجو .. وكان المعتصم لفرط شجاعته واعتداده بنفسه يمعن في الصيد ويسامر الذين في الفلوات، ثم لا يكون حديثه معهم إلا عن الصيد، ولم يكن المتوكل الذي ولى الخلافة.. أقل من أبيه المعتصم تعلقاً بالصيد وإقبالاً عليه، وإن كان لا يدانيه في فروسيته وشجاعته، وفي زمن المعتصم بلغ الصيد غايته وعدا طوره، فالخليفة قد ورث عن المعتصم قوته وولعه بالفروسية وشغفه بالصيد ، وكان مغرماً بالصيد بالعقاب وهو جارح صعب المنال يعتصم بالشواهق من قمم الجبال، عسير الترويض إذا كبر وتوحش ، لذا كان عزيزاً نادراً لدى هواة الصيد .
ولا يستطيع القارئ أن يتصور مدى اهتمام المعتصم بالصيد إذا عرف المبلغ الذي كان متخصصاً له في نفقات الدولة ونظر إليه بالنسبة إلى وجوه الإنفاق الأخرى، فقد كانت جملة نفقات بيت المال في السنين الأولى .. من خلافة المعتصم العباسي (2.500.000) دينار في السنة تدفع مياومة باعتبار كل يوم سبعة آلاف دينار تنفق على حرس القصر والغلمان والفرسان وأصحاب الرسائل. وأصحاب الأخبار والقراء والمؤذنين وشرطة دار السلام، ونفقات المطابخ والمخابز، ونفقات خزائن الكسوة والخلع والطيب وحوائج الوضوء وخزائن السلاح، وأرزاق القائمين في القصر، وأرزق الخاصة من الغلمان والمماليك وأرزاق الحشم والصناع من الصاغة والخياطين وغيرهم وأرزاق الحرم وثمن علوفة الكراع وثمن الكراع نفسه والإبل والخيل، وأصحاب الركائب والجنائب وأكابر الملهين وجماعة المطببين، وثمن النفط للنفاطات والمشاعل وأعطيات أولاد المتوكل الواثق والناصر وأرزاق مشايخ بني هاشم وجمهورهم .. وأرزاق أكابر الكتاب وأصحاب الدواوين والمديرين والأعوان … ونفقات السجون وثمن أقوات المسجونين.. ونفقات الجسرين وثمن ما يبدل من سفنهما ونفقات (البيمارستانات) وأرزاق الأطباء وأثمان الدواء والطعام .
أن مجموع ما كان ينفق على ذلك كله في اليوم الواحد سبعة آلاف دينار، كان يدفع منا سبعون ديناراً يومياً لأصحاب الصيد من المدربين، البازياريين والفهادين والكلابين، وهو ما يعادل واحد في المائة من أصل ذلك المبلغ الذي كان ينفق في تلك الوجوه التي ذكرناها وهنا نرى كيف كانت حب الهواية ويصور المكانة التي كان يحتلها الصيد في المجتمع العباسي في القرن الثالث الهجري..
وللصيد فضائل جمة، وملاذ ممتعة ومحاسن بينه وخصائص في ظلف النفس ونزاهتها، وجلالة المكاسب وطيبها كثيرة، وبه يستفاد النشاط والمنافع الظاهرة والباطنة والمران والرياضة والحفوف والحركة واتساع الخطوة وخفة الركاب وأمن من الأوصاب مع ما فيه من الآداب البارعة ، والأخبار المأثورة، ومن فضائل الصيد، أنه لا يكاد يحبه ويؤثره إلا رجلان متباينان في الحال.. متقاربان في علو الهمة ، أما ملك ذو ثروة أو زاهد ذو قناعة وكلاهما يرمي إليه من طريق الهمة وموضع ذلك من نفوسهم..
ويغدو للصيد اثنان متفاوتان، صعلوك منسحق الأطمار وملك جبار فينكفئ الصعلوك غانماً، وينكفئ الملك غارماً وإنما يشتركان في لذة الظفر .
وقيل لبعض من كان محباً للصيد من حكماء الملوك .. إنك قد أحببت هذا وفيه مشغله عن مهام الأمور ومراعاة الملك. فقال للمليك في مداومة الصيد فوائد كثيرة أقلها.. تبينه في أصحابه مواقع العمارة من بلاده في النقصان والزيادة فيه، فإن رأى من ذلك ما يسره بعثه الاغتباط على الزيادة فيه وأن رأى ما ينكره جرد عنايته له ووفرها على تلافيه، ولم يخرج ملك لصيد ورجع بدون فائدة أهمها أن يكون قد طويت عنه حال مظلوم فيتمكن من لقائه ويبوح إليه بظلامته ..
وقيل لرجل من عامة الناس مشغوف بالصيد ، لو التمست معاشاً غير هذا .. فقال إذن لا أجد مثله .. أن هذا معاش يجدي على من حيث لا أعامل فيه أحد وانفرد به من الجملة وسلم فيه من الفتنة، والتمسه في الخلوات والفوات .
يسلموووو على المرووور
وشكراً[/center]